الطائف والاصطياف على مر العصور
خص
الله سبحانه وتعالى الطائف بخصائص جمة منذ الأزل، بأن جعلها قرب مكة المكرمة
وبجوار بيته العتيق، ومكة في موضع قفر لا شجر ولا ماء فيه، في أرض قاحلة وسط وادٍ
تحيط الجبال به من كل جانب. ومنها أن الله تعالى شرفها بدخول نبيه صلى الله عليه الصلاة والسلام الطائف مرتين، وخلال هاتين
الزيارتين حصلت معجزات عدة في مدينة الطائف منها أنه مهبط الوحي عليه صلى الله عليه الصلاة والسلام ووجود قبر حبر هذه الأمة
ومسجده وابن عم رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عباس رضي الله عنه كما يوجد بها آثار ومآثر
إسلامية كثيرة .
ونستمد ذلك من إبراهيم u لما قال } ربنا إني أسكنت من ذريتي
بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم { الآية، ومنها إن رسول الله
صلى الله عليه الصلاة والسلام قال (الطائف بستان الحرم).
استجاب الله لدعوة إبراهيم عليه السلام بأن اقتطع الطائف من الشام
من تخوم الأرض بعيونها وثمارها ومزارعها وأمره أن يغرسها بالطائف، ووضعها مكانها
اليوم، فكانت رزقاً لأهل مكة من الثمرات والخيرات، كما تُصدر لها الفواكه
والخضروات، وهي المموّن الوحيدة للحجاز لهذه المنتجات الغذائية وإلى الآن، ومن المعلومات
المهمة للاصطياف في العهود السابقة الواقعة بين عامي 600م وعام 750 م أي على الفترة التي زادت
فيها أهمية الطائف، ليس فقط كمصيف لأهل مكة بل أيضاً كمورد للمواد الغذائية وكظهير
زراعي لمدينة الرسول التجارية لاحقاً .
لقد اشتهرت الطائف قديماً بأنها موقع السياحة
والاصطياف لقضاء أشهر الصيف، وهي مصيف مدن الحجاز قديماً وإلى الآن بأجوائها
الربيعية الندية، وبيئتها الطبيعية ومياهها الوفيرة في الوهط والوهيط والمثناة
وجنوب الطائف وشرقه على امتداد مسيل وج، كما اشتهرت منذ عقود ماضية السلامة وقروى
ومعشي وشبرا وشهار وحوايا والسداد والريان وجبرة وأم خبز والقيم والجفيجف والعرج
بمزارع وبساتين وحقول يانعة الثمار تخترقها وديان وخلجان تنهمر منها المياه بغزارة
بأرضها التي تجود بالخيرات المتنوعة طوال أشهر الربيع والصيف من الفواكه والأعناب
وما تشتهيه الأنفس والتي أصبحت خيراً على أهل الطائف في تصدير هذه المنتجات للمدن
المجاورة، وخاصة مع أهل مكة التي ترتبط بهم مصالح تجارية مشتركة. وبذلك أصبح
للاستثمار دور مميزه في العلاقات الثنائية وتأسيس أول عمل اقتصادي بين الطائف وما
جاورها من المدن . فإن أغنياء ووجهاء قريش كانت لهم أملاك ومزارع في الطائف، ومنهم
آل أبي العاص وفي مقدمتهم عمرو ابن العاص وأملاكه في الوهط غرب الطائف، وتحولت
الطائف إلى منتجع ومصيف لسكان مكة الذين يجدون فيها ما يخفف عنهم قسوة الحر وجفافه
بين شعاب مكة. وكان حكام مكة
وولاة جدة ومشايخ الحرم بالمدينة المنورة وعامة الناس يأتون إلى الطائف في فصل
الصيف لبرودة هوائه واعتدال أجوائه وقد اشترى أغنياء مكة بها الأملاك والبساتين
وشاركوا أهل الطائف في التجارة. وللطائف قرى أولها القيم وأخرها الوهط، وكان أهل
الطائف مزارعين عاشوا على الزراعة واتخذوها تجارة لهم، ولديهم الكروم والفواكه
والحبوب وكسبوا من ذلك أموالاً، وكان منهم من اشتغل بدبغ الجلود وبيعها وتصديرها
إلى الخارج، وساهموا مع تجار مكة في تجارتهم.
وخلال العصور الماضية ساهمت الطائف مساهمة
كبيرة في الأعمال الزراعية والصناعية والتجارية التي انتشر صيتها بين مدن الحجاز
والجزيرة العربية وكان لها الدور الريادي في هذه المجالات الاقتصادية عبر تلك
العصور من تاريخ الطائف، ولا شك أن اعتدال المناخ خير ما يجذب سكان الجزيرة
العربية إلى هذه البقعة، وخير ما يعين على النشاط البشري، وهكذا اجتمع للطائف طيب
المناخ ووفرة وسائل الحياة من مياه وغلات متنوعة . فأصبحت متنفساً
لسكان مكة يفرّون إليها من شدة الحر وكان ملوك مكة إذا تأذوا من الحر خرجوا إليها
. ولعل قربها من مكة واختلاف الجو بينهما استقطب الكثيرين من الناس على
مر العصور والدهور ليتمتعوا بجوها الجميل ويفرّون من حرارة شمس مكة المتوقدة.
ويبدوا أن ظاهرة الاصطياف نشأت بين أبناء الطبقة الارستقراطية المنعمة منذ القدم.
بهذه الطبيعة الخلابة التي تنعم بها هذه المدينة والتي لفتت أنظار الرواد والعشاق
للرحلات القديمة والحديثة ، وقد كان لمناخها الجميل أثر على جودة محاصيلها
الزراعية ... ويمكن القول أن الطائف ذات مزارع ونخل وأعناب وموز وسائر الفواكه
وبها مياه جاريه وأوديه تنصبّ منها إلى تباله، وفي أكنافها كروم على جانب ذلك
الجبل، فيها من العنب العذب مالا يوجد مثله في بلد من البلدان، وأما زبيبها فيضرب
بحسنه المثل . ومما سبق يتضح لنا أن الطائف كانت أجمل منطقة في هذه الجزيرة
المترامية الأطراف، وقد أيقظ هذا الموقع المهم الذي تتمتع به هذه المدينة روح
التنافس بين مكة والطائف، فقد عرف أهل مكة موقع الطائف الزراعي الهام فاشتروا
الضياع وامتلكوا البساتين الغناء التي تجود بصنوف الثمار، وأشار لامانس بقوله
:(لقد رأينا أن كثيراً من أهل مكة يعيشون في الطائف، وكانت لهم ضياع فيها) .
وبهذا أصبحت مصيفاً لأهل مكة والمناطق الأخرى في شبه الجزيرة العربية على أهمية
موقعها وأرضها الخصبة التي تنتج من المزروعات والفواكه المتنوعة الكثيرة.
وارتبطت الطائف بمكة برباط وثيق، نتيجة التقارب المكاني من جهة وتبادل
المنافع والمصالح من جهة أخرى، فالطائف أقرب مدن الحجاز لمكة، وكان جدب مكة وفقرها
في موارد المياه والإنتاج الزراعي ولخصوبة أرض الطائف وانتشار البساتين فيها ووفرة
غلاتها، مما يحقق التكامل بين المدينتين الحجازيتين الكبيرتين، والتعاون بين مجتمع
مكة التجاري ومجتمع الطائف الزراعي .
فقد جمع تجار قريش الأثرياء ثروات ضخمة في اشتغالهم بالتجارة الدولية
. ونظراً لأن مواسم الحج أهم المواسم الاقتصادية لتجار مكة ولعوائدها
الجيدة فقد أرادوا استثمارها
في مدينة أخرى قريبة وفي مشروعات تتصف بالضمان، فكانت الطائف خير مجال لهذا
الاستثمار، فامتلك كثير منهم البساتين والعقارات، وأراد هؤلاء الأثرياء والأشراف
الهرب من قيظ مكة صيفاً فأقاموا القصور الفاخرة لإقامتهم في الطائف باعتبارها
المصيف القريب لمكة عبر العصور الماضية من هذا القرن . ولما كانت أراضي
الطائف مرتفعة جداً بالنسبة لمكة المكرمة، فإن درجة الحرارة بها تقل ستة أو سبع
درجات عنها في البلدة المقدسة هذه، مما كان سبباً في لطف هوائها وجماله، وأكثر
أهالي مكة المكرمة يذهبون إلى أعالي الطائف، ويبقون بها طوال الأشهر التي تشتد
فيها الحرارة . وأصبح كثير من القرشين يستثمرون أموالهم ويقضون فصل
الصيف فيها وبين أهلها لاعتدال مناخها في هذا الفصل على سائر بلاد الحجاز .
وقد
تغنى الجغرافيون القدماء بالطائف وعذوبة هوائها ونضارة العيش فيها. ومن الثابت أن
أسر أهل مكة كانوا يملكون ضياعاً في الطائف يلمّون بها في أشهر الصيف هرباً من حرّ
مكة . ويقول الدكتور جواد علي: لقد كانت الطائف ومازالت مصيفاً طيباً
يقصده أهل مكة فراراً من وهج الشمس.
ويقول
الفرنسي سيديو: أن ربوع الطائف الغني حيث المناخ المعتدل والمياه العذبة جعلته
مصدراً من مصادر الثروة الاقتصادية، فقد كان المصيف الأول لأهل مكة خاصة وأهل
الحجاز عامة .
ويذكر
الدكتور أحمد الشريف: أن صلات قريش كانت وثيقة بقبيلة ثقيف بالطائف، وقد كانت
الطائف مصيفاً لأهل مكة آنذاك والمدن المجاورة لها .
ومن
هذا كله يتبين لنا أن الطائف تحتل بين مدن الحجاز مركزاً ممتازاً من حيث خصوبة
أرضها ووفرة ثمارها واعتدال هوائها .
وفي
بلدانيات المحب بن فهد عن الأصمعي قال: (دخلنا الطائف فكأني كنت أبشّر وكان قلبي
ينضح بالسرور، وما أجد لذلك سبباً إلى انفساح جوّها وطيب نسيمها . وكان
وج بن عبد الحي من العمالقة أول من اتخذ الطائف مصيفاً له، ولقد قدر الله أزلاً أن
مكة المكرمة وبيته المحرم سيكون بواد غير ذي زرع فجعل الله سبحانه وتعالى الطائف
من حولها بستاناً يؤمن متطلبات البلد الأمين وتقع الطائف على جبل
غزوان، وهو أرفع مكان في شبه الجزيرة العربية، ويتجمد الماء في أعلى قمته، ويرتفع
عن سطح البحر بحوالي ألفين وستمائة قدم. وإذا أهلّ فصل الشتاء هطلت الأمطار،
واكتست الجبال والهضاب بالثلج والبرد وأصبح المكان نهراً تتدفق منه المياه، وتعد
الطائف مدينة الاصطياف على مر العصور السابقة وتتمتع بطقس معتدل وهواء بديع
وطبيعية خلابة وحقول زراعية ومياه عذبة فهي متنفس ومنتجع سياحي للتنزه إلى وقتنا
الحالي.
|